دار الزليج مطعم مغربي بنكهة ليالي القرن السابع عشر “صور”

على عكس ما يقوم به رواد المطاعم، عادة، من الذهاب مباشرة نحو الموائد المحجوزة لهم مسبقاً، أو المقترحة عليهم في حينه، لتناول ما يرغبون فيه من أطباق أكل ومشروبات، فإن زبائن مطعمدار الزليج بمراكش يستغرقون وقتاً كبيراً في التجول بين أرجاء الدار للتعرف على نقوشها وشكل بنائها واللوحات المعلقة على جدرانها، استمتاعاً بجمال عمارتها وتناسق ألوانها، قبل أن تنتهي بهم متعة التجوال، في أنحاء الدار، نحو كراسي وموائد تضيئها شموع وتتوسطها ورود من كل الألوان.

وما إن تجد نفسك جالساً على كرسيك للعشاء داخ دار الزليج حتى تتساءل هل الشكل التقليدي لهذه الدار الجميلة هو ما يمنحك عشاء بنكهة مغربية أصيلة، أم أن الرغبة في تناول أطباق مغربية أصيلة هي ما يمنحك فرصة الاستمتاع بجمالية وروعة وفرادة الدار والمكان.

والواقع أن بين العشاء المقترح بأطباق دار الزليج والفضاء الذي تقترح فيه هناك متعة متواصلة تجمع العين إلى البطن في تساو تام بين ما يغذي عطشهما إلى شرق يتواصل فينا، سواء جئنا مراكش من أقصى الأرض أو من شمالها القريب أو البعيد.

وفي سياق متعة العين، التي تنقلك من الطابق الأرضي إلى سطح الدار المنفتحة على سطح المدينة الواسع بدوره ومآذنه ونخيله وسمائه الزرقاء الصافية وجبال الأطلس الشامخة في خلفية المشهد، حيث يمكن للزبون أن يستمتع بكؤوس الشاي المنعنع وشتى أصناف المشروبات، يقترح مطبخ «دار الزليج» على رواده أربعة أنواع وأشكال من الوجبات، فهناك، أولاً، «قائمة الاكتشاف»، بـ 350 درهماً (40 دولاراً)، وتتضمن فسيفساءً من السَلطات أو نخبة من «البريوات»، وطاجين دجاج بالزيتون والليمون أو طاجين اللحم خاص بالدار، وبسطيلة بالحليب واللوز، تنتهي بكأس شاي منعنع، وتشكيلة من الحلويات المغربية الشهيرة، وثانياً، «قائمة متكاملة» بـ 400 درهم (43 دولاراً)، تتضمن فسيفساء من السَلطات المغربية الرفيعة والبريوات، أو بسطيلة من الخضر، ثم طاجين سمك بقطع الخضر أو طاجين اللحم خاص بالدار، ثم كسكس أمازيغي بالخضر، ثم بسطيلة بالحليب واللوز أو فواكه الموسم، تنتهي بشاي بالنعناع، وتشـْكيلة من الحلويات المغربية الشهيرة، وثالثاً، «قائمة التذوق» بـ 450 درهماً (46 دولاراً)، وتتضمن تشكيلة من السلطات المغربية الرفيعة والبريوات وبسطيلة، حسب الاختيار، إما بالدجاج أو الخضر أو السمك، وطاجين اللحم بالخضر أو طاجين اللحم، خاص بالدار، أو «تْريد» بالدجاج، وكسكس أمازيغي بالخضر أو فاكهة الموسم، تنتهي بالشاي، وتشكيلة من الحلويات المغربية الشهيرة، ورابعاً، «قائمة أكل ملكية»، بأطباق حسب الطلب، بـ 600 درهم (50 دولاراً)، تتضمن فسيفساء من السَلطات المغربية الرفيعة والبريوات، وبسطيلة، حسب الاختيار، إما بالدجاج أو الخضر أو السمك، وطبقين، حسب الاختيار، بين كتف لحم الخروف والتـْريد والكسكس بالحليب والطنجية المراكشية والطاجين المقفول والمشويات الملكية والكباب وطاجين الدجاج باللوز، ثم فواكه الموسم، تنتهي بشاي منعنع، وتشكيلة من الحلويات المغربية الشهيرة.

وإذا كان للزبون أن يختار بين أطباق تتخلص من جوعه وقوائم طعام تتراوح بين اختيار من أربع وجبات متكاملة، وإذا كان للأذن أن تستمتع بموسيقى شرقية ومغربية أصيلة، فإن العين لا تقف بمتعتها عند جمال ما يؤثث ويشكل للدار على مستوى العمارة والنقش، بل تجد شيئاً من فتنة عوالم ألف ليلة وليلة، عبر رقصات تؤكد أن للجسد نيران تمنحه مرونة الإبهار ومسْح الغبار على مشاعر قد تكون أطفأت لهيبها برودة السنين أو روتين وضغط الأيام أو حتى ضباب وبرودة مدن الشمال.

ومعظم رواد هذا المطعم الجميل في شكل بنائه وموقعه، الذي تتجاور فيه العديد من دور الضيافة، هم من السياح الأجانب، سواءٌ المستقرون بشكل نهائي بالمدينة الحمراء، أو الذين يقيمون في دور ضيافة أو بفنادق فخمة، مالت بمطابخها نحو حداثة الشوكة والسكين والأكلات السريعة. أما المغاربة فلا يقصدون مثل هذه الفضاءات إلا في حالات قليلة، فهؤلاء يَعيشـُون أصالة الطبخ المغربي وفق ما يُوفره مطبخُ المنزل، وحين يـُقررون الأكل في الخارج فغالباً ما يكون ذلك بحثاً عن أطباق مستحدثة أو وجبات سريعة، توفرها محلات ومطاعم «الماكدونالدز» و«البيتزا هت»، أو المطاعم الشعبية بساحة جامع الفنا، وغيرها.

ويبدو ليلُ «دار الزليج» وفياً لهدوئه الجميل ولمضمون اللوحات التي تـُزين صالون الدار، والتي تتشكل إحداها من عبارة تقول «ولك الساعة التي أنـْت فيها»، وهي لوحة تتقابل مع لوحة أخرى تغطي الجدار المقابل، نقرأ فيها بيتاً شعرياً، يقول «إن عمر المرء ما قد سره، ليس عمـْر المرء مر الأزمنة».

ولكن أجمل ما في «دار الزليج» أنها تأتي ضمن مشروع شخصي لإبراز ثقافة المدينة وحضارتها، قبل أن تكون مشروعاً تجارياً يسعى خلف الربح، بحسب مضمون كلام صاحبها ومالكها عبد اللطيف آيت بن عبد الله.

وصاحبُ الدار هو، أيضاً، مالك «دار الشريفة»، المعروفة في عمق المدينة القديمة بتخصصها في تسويق الوجه الثقافي والحضاري لمدينة السبعة رجال، عاصمة المرابطين والمدينة التي تتابع على عمارتها وتشكيلها سلاطين وملوك الموحدين والمرينيين والوطاسيين والسعديين والعلويين.

وتقع «دار الزليج» داخل دائرة تجمع بين سيدي بلعباس وباب تاغزوت وسيدي اسليمان، في وسط المدينة القديمة، في اتجاه باب دكالة، والمعروفة بأزقتها الضيقة الملتوية وعالمها الشعبي الغارق في روائح ماضي مدينة يترافق تراثها مع الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة.

وينتهي بك المسير عبر دروب المدينة القديمة إلى باب تقليدي يستقبلك عنده عاملان بلباس تقليدي مُشكل من الجلابية المغربية البيضاء والبلغة التقليدية والطربوش الأحمر المغربي، يرحبان بك، قبل أن تجد نفسك في عهدة من يقودك إلى داخل المنزل، حيث الموائد منصوبة والشكل الجميل للمعمار يأخذ العين نحو آفاق أخرى.

ويقول عبد اللطيف آيت بن عبد الله، مالك الدار، والذي يملك أيضاً، العديد من دور الضيافة بالمدينة، في حديث مع «الشرق الأوسط»، إن «دار الزليج» هي «إحدى أقدم دور الضيافة في مراكش وقد حولتها إلى مطعم، استثماراً لطبيعة بنائها، أولاً، ثم لأنها، كدار ضيافة، كانت بالكاد تستوعب ثمانية نزلاء، ما يعني أنها، قبل الحديث عن هامش الترويج والتسويق للمنتوج السياحي، كانت فضاء محدوداً في قيمته التعريفية بحضارة البلد، وقد حولتها إلى مطعم انسجاماً مع رغبتي في تقريب العمارة والتراث المغربي إلى أكبر عدد ممكن من السياح والزوار الأجانب، فضلاً عن تقديم الطبخ المغربي إلى الراغبين فيه من السياح، وذلك بمواصفات تنقل أصالته وغناه وتميزه». وأضاف آيت بن عبد الله ، قائلاً «أنا أجد بيكاسو الفن الخاص بي في كل جزئية من هذه الدار التي تعود إلى بدايات القرن السابع عشر، والتي أعدت ترميمها، قبل 15 سنة، بعد أن كانت في طريقها إلى الخراب، وهي سميت، في الأصل، «دار الزليج» لأن الزليج كان يطغى على شكل بنائها، وهي تمتاز بعلو البناء فيها، الذي يصل إلى ثمانية أمتار ونصف المتر، وهي، بالنظر إلى نقوشها وشكل عمارتها، تمنح فرصة مثالية لكي ترتاح العين والروح، معاً. وعلى عكس بعض المطاعم التي تساهم في قتل المطبخ المغربي وتقديم صورة مشوهة عن أطباقه، فقد عملتُ في الدار على إظهار غنى المطبخ المغربي وتميزه، عبر التنويع في ما يعرض على السائح من اختيارات، أولاً، وعلى أن يذهب راضياً على مذاق ونكهة الوجبات المقدمة إليه، ثانياً». وأضاف آيت بن عبد الله، قائلاً «إن السياح يأتون إلى المغرب باحثين عن التميز الحضاري، ولذلك يبقى علينا أن نبهرهم بتراثنا وحضارتنا في أصالتها لا بتقديمها مشوهة، وذلك من خلال إبراز فن العيش المغربي الأصيل، الذي يتجسد في العمارة وشكل البناء كما يتجسد في الأكل والطبخ».

قد يعجبك ايضا
اترك تعليقا