المغرب : تجربة حوار وطني ناجح

في العالم العربي ليست هناك تقاليد راسخة في الحوارات الوطنية المؤسساتية، وأغلب مشاكلنا السياسية والقانونية نواجهها بمنطق القوة والغلبة..قبل أزيد من سنة انطلق حوار وطني في المغرب حول موضوع المجتمع المدني الذي يستحق المتابعة كتجربة ناجحة في مجال الاستشارات العمومية التي تستهدف جمهورا واسعا.

هذه الاستشارة العمومية الواسعة شكلت فرصة تاريخية لتشخيص واقع المجتمع المدني والوقوف عند عناصر القوة والضعف، بغية استشراف آفاق تطوير أدائه على ضوء المقتضيات الجديدة للدستور المغربي، التي أناطت بالمجتمع المدني أدوارا جديدة تمثل ركنا أساسيا للنظام السياسي والدستوري المغربي في إطار الديموقراطية التشاركية.
منهجية عمل اللجنة الوطنية للحوار الوطني حول المجتمع المدني التي تم تعيينها من طرف الحكومة، لكنها اشتغلت باستقلالية تامة عنها، تستحق الدراسة والتأمل من زوايا متعددة:

– أولا – من زاوية إدارة العلاقة بين أعضائها الذين تجاوز عددهم الستين، وتنظيم عملها على أرضية عمل واضحة ووفق نظام داخلي يضبط العلاقات والاختصاصات، مع استحضار البعد الإنساني وأجواء روح الفريق والإحساس بالمسؤولية الجماعية، والتجرد من جميع الأحكام المسبقة والحسابات الضيقة .
– ثانيا – من زاوية علاقتها بالمجتمع المدني وبالجمعيات والمنظمات غير الحكومية المساهمة في فعاليات الحوار، وكيفية توثيق وترصيد كل الأفكار والمقترحات التي أسفر عنها الإنصات للجمعيات داخل المغرب وخارجه، وكذا الأيام الدراسية والندوات العلمية واللقاءات التشاورية مع المؤسسات والقطاعات الحكومية ذات الصلة بالمجتمع المدني..

– ثالثا – من زاوية العلاقة مع التجارب المقارنة والاستفادة من الخبرة الدولية في مجال تنظيم ومأسسة آليات ومسالك الديموقراطية التشاركية واستثمار اجتهاداتها ورصيدها وممارساتها الفضلى في إغناء نتائج الحوار ومخرجاته..

-رابعا – من زاوية الاستثمار العلمي والقانوني للقوة الاقتراحية التي أفرزها الحوار وصياغة مخرجات وأرضيات قانونية تتوفر فيها معايير الجودة المطلوبة للتداول داخل المؤسسة التشريعية، وذلك بالاعتماد على الخبرة المغربية بالأساس.

تجربة المجتمع المدني المغربي والمشاركة المدنية الطويلة والمتميزة والرائدة وتقاليد العمل التطوعي كانت حاضرة في الخلفية الضمنية لمختلف فعاليات وأطوار الحوار الوطني.
كما أن رصيد وخبرة كبريات المراكز الدولية من قبيل المركز الدولي لقوانين منظمات المجتمع المدني الموجود في أمريكا ومساهمة الجامعة المغربية في شخص عدد وازن من الأساتذة الجامعيين فتح آفاق النقاش في كل ما يتعلق بالبيئة القانونية والتشريعية لحريات جمعيات ومنظمات المجتمع المدني و أدوارها وحكامتها على توصيات ومخرجات في غاية الأهمية.
مخرجات الحوار الوطني لا تقل أهمية عن منهجية الحوار، وقد توزعت على 240 توصية بالإضافة إلى ثمانية مذكرات ملحقة، من شأن تفعيلها أن يساهم في نقل بلادنا إلى طور جديد من أطوار الديموقراطية الحقة..
ثلاثة مرتكزات أساسية أطرت الخلاصات الأولية للحوار الوطني حول المجتمع المدني: أولا، أحكام الدستور المتعلقة بالديمقراطية التشاركية والمجتمع المدني، وهي أحكام متقدمة بالمقارنة مع عدد كبير من الدساتير الحديثة، ثانيا، القوة الاقتراحية للمجتمع المدني المنبثقة على اللقاءات الجهوية واللقاءات الإقليمية وجلسات الإنصات والمذكرات التي شاركت بها الجمعيات من داخل المغرب ومن خارجه، وقد أبانت عن مدى غنى وتطور ونضج الفاعل المدني وقدرته على التفاعل مع المحطات التاريخية الكبرى بطريقة صحيحة، بالإضافة إلى العديد من مقترحات المؤسسات الوطنية والمؤسسات العمومية التي أسهمت بمقترحات غنية لتطوير الفعل المدني ببلادنا، ثالثا، التشريع المقارن والممارسات الفضلى المتعارف عليها دوليا وكذا بعض التجارب الأجنبية الناجحة..

المنهجية التي جرى اعتمادها في إدارة هذا الحوار تستحق حيزا أكبر من هذا المقال، لكن يمكن القول بتركيز شديد أنها استندت بشكل أساسي على قواعد الاستشارة العمومية كما هو متعارف عليها في التجارب الناجحة، وقد كانت السيدة Anne Marie Chavanon ممثلة مجلس أوربا في المناظرة الختامية للحوار على حق عندما وجهت نداء للاستفادة من التجربة المغربية في مجال إدارة الاستشارة العمومية معتبرة إياها تجربة نموذجية..

لنعد إلى أهم رسائل الحوار، يمكن القول، بأن المغرب سيدخل طورا جديدا في مسار التحول الديموقراطي قائم على تعزيز مكانة المجتمع المدني في صناعة القرار من الناحية المؤسساتية والاعتراف بمبادرته على المستوى التشريعي والرقابي والتشاوري، وعلى الجميع أن يتكيف بسرعة مع الاستحقاقات التي يفرضها هذا التحول..
ذلك أن تفعيل المشاركة المدنية والديموقراطية التشاركية المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية يمر عبر أطر قانونية ملزمة من قبيل القوانين الخاصة بالملتمسات والعرائض والتشاور العمومي، وهو ما يعني أن مسلسل إعداد السياسات العمومية يمر – بالضرورة – عبر المشاركة المدنية للمواطنين والمواطنات وفقا لأحكام الدستور.
هذا التحول الكبير رهين بضخ جرعات جديدة على مستوى تعزيز علاقة التعاون والشراكة بين الدولة، وبين النسيج الجمعوي للمجتمع المدني بمختلف أطيافه، وتفجير طاقته الإبداعية في مختلف المجالات ، والتخلص التدريجي من إرادة التوظيف و الوصاية..
إن النهوض بالأدوار الدستورية الجديدة للمجتمع المدني رهين أيضا بضخ نزعة إرادية جديدة وسط العاملين والعاملات في الحق المدني قوامها تحقيق الاستقلالية الحقيقية عن الفاعلين الآخرين، من دولة وأحزاب ونقابات وقطاع خاص ومراكز نفوذ..
يوم 13 مارس من كل سنة سيصبح يوما وطنيا للمجتمع المدني، وسيكون مناسبة للاحتفال بالجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وإبراز جهودها وتقييم أدائها واستشراف آفاقها.
هذا القرار الذي اتخذه ملك البلاد يمثل في الواقع تتويجا لمسار تشاوري موسع خاضته اللجنة الوطنية بمنهجية تعتمد تقنية الإنصات بالدرجة الأولى، كما يمثل تقديرا للعمل الكبير الذي ساهم فيه أزيد من 10000 مشارك ومشاركة، وشهادة اعتراف بمجهود وطني كبير غير مسبوق في التجربة المغربية.
إن تعزيز أدوار المجتمع المدني لا يمكن إلا أن يعتمد على الرصيد الحضاري العريق للمغاربة وعلى الخلفيات الثقافية لقيم التطوع والتضامن والتكافل الاجتماعي، بالإضافة إلى قيم حقوق الإنسان وما أعطته للفرد/ المواطن من أدوار..
إن اضطلاع المجتمع المدني بأدواره الجديدة ليس فيه إي إضعاف لمؤسسات الدولة ولا ينتقص من قيمة الديمقراطية التمثيلية القائمة على الصوت الانتخابي، ذلك أن الفلسفة العميقة للديموقراطية التشاركية هي تعزيز قيمة المشاركة، وتحرير الفرد من الوصاية والتحكم، ومعالجة الاختلالات التي أبانت عنها المؤسسات المنتخبة ومحدودية استيعابها لمختلف مسالك التشارك والمشاركة..
إن تصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني يتوقف أيضا على تجاوز مجموعة من الإشكاليات من قبيل ضعف احترام القانون في تأسيس الجمعيات وضرورة تطوير كل ما يرتبط بالضبط العمومي للحياة الجمعوية في أفق المزيد من الحرية، كل ذلك يمر عبر معالجة إشكالية الديمقراطية الداخلية للجمعيات وملاءمة ممارساتها الإدارية والمالية لقواعد الشفافية والمراقبة والمحاسبة…
هذه عصارة تجربة مغربية نموذجية، ومنطقتنا العربية في أمس الحاجة للمزيد من هذه الحوارات لتجاوز لغة الإقصاء والاستئصال والاستنزاف المتواصل في عدد من الأقطار العربية..

د. عبد العلي حامي الدين

قد يعجبك ايضا
اترك تعليقا